فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنْ تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما}
التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإِرشاد إلى رأْب ما انثلم من واجبها نحو زوجها.
وإذ قد كان ذلك إثما لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سرّه ذكّرها بواجب التوبة منه.
وخطاب التّثنية عائدة إلى المنبئة والمنأبة فأمّا المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله: {إلى بعض أزواجه} [التحريم: 3].
وأما المنبّأة فمعادها ضمنيّ لأن فعل {نبأت} [التحريم: 3] يقتضيه فأما المنبّئة فأمرها بالتوبة ظاهر.
وأما المُذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السرّ ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها.
و{صغت}: مالت، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يُميل سمعه إلى من يكلمه، وتقدم عند قوله تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} في سورة [الأنعام: 113].
وفيه إيماء إلى أن فيما فعلتاه انحرافا عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما.
وهذان الأدبان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات.
والتوبة: الندم على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة.
وإذْ كان المخاطب مثنّى كانت صيغة الجمع في (قلوب) مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام.
فلما أُمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.
وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس.
وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعا كما في هذه الآية وقول خطام المجُاشعي:
ومهمهين قذفين مرْتيْنْ ** ظهراهما مثلُ ظُهور التُرسين

وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران.
ويقلّ أن يؤتى بلفظ المفرد مضافا إلى الاسم المثنى.
وقال ابن عصفور: هو مقصور على السماع.
وذكر له أبو حيّان شاهدا قول الشاعر:
حمامة بطننِ الواديين ترنّمي ** سقاك من الغُرّ الغوادي مطيرها

وفي التسهيل: ترجيح التعبير عن المثنى المضاففِ إلى مثنى باسمم مفرد، على التعبير عنه بلفظ المثنى.
وقال أبو حيّان في (البحر المحيط): إن ابن مالك غلط في ذلك.
قلت: وزعم الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين)، أن قول القائل: اشترِ رأس كبشين يريد رأسيْ كبشين خطأ.
قال: لأن ذلك لا يكون. اهـ.
وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاففِ المثنى بلفظ الإِفراد مقصور على السماع، أي فلا يصار إليه.
وقيّد الزمخشري في (المفصل) هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين.
فقال: ويُجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله: {فقد صغت قلوبكما} ولم يقولوا في المنفصلين: أفراسهما ولا غلمانهما.
وقد جاء وضعا رحالهما.
فخالف إطلاق ابن مالك في (التسهيل) وطريقة صاحب (المفصل) أظهر.
وقوله: {وإن تظّاهرا عليه} هو ضد {إن تتوبا} أي وإن تصرّا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه إلخ.
والمظاهرة: التعاون، يقال: ظاهره، أي أيده وأعانه.
قال تعالى: {ولم يظاهروا عليكم أحدا} في سورة [براءة: 4].
ولعلّ أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد، وهو الظّهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد.
وقريب من هذا فعل عضد لأنهم قالوا: شد عضده.
وأصل {تظّاهرا} تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي {تظاهرا} بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
{وصالحُ} مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى: {فمنهم مهتد} [الحديد: 26].
والمراد بـ {صالح المؤمنين} المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد.
وجملة {فإن الله هو مولاه} قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولّى جزاءكما على المظاهرة عليه، لأن الله مولاه.
وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل.
وضمير الفصل في قوله: {هو مولاه} يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما، أي وبطل نصركما الذي هو واجبكما إذْ أخللتما به على هذا التقدير.
وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يقع أحد من بعد في محاولة التقصير من نصره.
فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات.
وعطفُ {وجبريل وصالح المؤمنين} في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين.
وفيه تعريض بأنهما تكونان (على تقدير حصول هذا الشرط) من غير الصالحين.
وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير} عطف جملة على التي قبلها، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويها بمحبة أهل السماء للنبي صلى الله عليه وسلم وحسننِ ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأنا.
وفي الحديث «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحِبّه فيحبُّه جبريل ثم ينادي جبريلُ في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحِبُّوه فيحبُّه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض».
فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبّه لصلاحه والصالح لا يحبّه أهل الفساد والضلال.
فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث.
وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات.
وقوله: {بعد ذلك} اسم الإِشارة فيه للمذكور، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين.
وكلمة {بعد} هنا بمعنى (مع) فالبعدية هنا بعدية في الذّكر كقوله: {عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 13].
وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غيرِ ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة الملائكة على نصرة جبريل بلْه نصرة الله تعالى.
و{ظهير} وصف بمعنى المظاهر، أي المؤيد وهو مشتقّ من الظهر، فهو فعيل بمعنى مفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفا في قوله: {وإن تظاهرا عليه}، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإِيراد وغيره فإن كان هنا خبرا عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول.
كقوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]، وقوله: {وكان الكافر على ربه ظهيرا} [الفرقان: 55] وقوله: {وحسن أولئك رفيقا} [النساء: 69]، وإن كان خبرا عن جبريل كان {صالح المؤمنين والملائكة} عطفا على جبريل وكان قوله: {بعد ذلك} حالا من الملائكة.
وفي الجمع بين {أظهره الله عليه} [التحريم: 3] وبين {وإن تظاهرا عليه} وبين {ظهير} تجنيسات.
{عسى ربُّهُ إِنْ طلّقكُنّ أنْ يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِنْكُنّ مُسْلِماتٍ}
ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله: {وإن تظاهرا عليه} [التحريم: 4] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عقبت بها جملة {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإِيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهن يأمر الله فيها نبيئه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين.
وفي قوله: {عسى ربه إن طلقكن} إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن.
فالتقدير: عسى أن يطلقكن هو (وإنما يطلق بإذن ربه) أن يُبدله ربُّه بأزواج خيرٍ منكن.
وفي هذا ما يشير إلى المعْنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة والإِرشاد التي ذكرناها آنفا.
و {عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله: {خيرا منكن} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خيرا منكن} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجا للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الآية إلى قوله: {خيرا منكن} نزلت موافِقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقا لقول عمر أو رأيه تنويها بفضله.
وقد وردت في حديث في (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن عمر قال: «وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]، وقلت: يدخلُ عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهاتتِ المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب. وبلغنِي معاتبة النبي بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلنّ الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات} الآية».
وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواجٌ خيرٌ منهن.
وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي.
وقرأ الجمهور {أن يبدّله} بتشديد الدال مضارع بدّل.
وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل.
والمسلمات: المتصفات بالإِسلام.
والمؤمنات: المصدّقات في نفوسهن.
والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام.
وتقدم القنوت في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} في سورة [البقرة: 238].
وقوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله} في سورة [الأحزاب: 31].
وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة.
والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه.
وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أُمرتا بها بقوله: {إن تتوبا إلى الله} [التحريم: 4].
والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات.
والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي.
وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجا}، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قوله: {وأبكارا} لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيّبات.
قُلت وفي قوله تعالى: {مسلمات}، إلى قوله: {سائحات} مُحسن الكلام المتزن إذْ يلتئم من ذلك بيت من بحر الرمل التام:
فاعلتن فاعلتن فاعلتن ** فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن

ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعابا وأبهى زينة وأحلى غنجا.
والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلا وفي ذلك مجلبة للنفس، والبكر لا تعرف رجلا قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم.
فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيرا منها في تلك المزية أيضا.
وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات.
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات.
ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكرا.
وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل: (الحر تكفيه الإِشارة).
وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات.
ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى: {ثيبات وأبكارا} زعمها ابنُ خالويه واوا لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية (بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون) وتبعهُ جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل.
أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفا مشتقا من عدد ثمانية أو كان ذاتا ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان ذلك مفردا أو كان جملة.
فقد مثلوا بقوله تعالى في سورة [براءة: 112]: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي {الناهون عن المنكر}.
وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله: {مسلمات} إلا الثامنة وهي {وأبكارا} ومثلوا لما وصف فيه بوصف ثامن بقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} في سورة [الكهف: 22].
فلم يعطف {رابعهم} ولا {سادسهم} وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل.
ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} في سورة [الحاقة: 7].
ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى في سورة [الزمر: 73]: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها قالوا جاءت جملة وفتحت} هذه بالواو ولم تجئ أختها المذكورة قبلها وهي {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71].
لأن أبواب الجنة ثمانية.
وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة.
وذكر الدماميني في الحواشي الهندية على (المغني) أنه رأى في (تفسير العماد الكندي) قاضي الإِسكندرية (المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة) نسبة القول بإثبات واو الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حبوس (بموحدة بعد الحاء المهملة) هو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420.
وذكر السهيلي في (الروض الأنف) عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفرد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية بابا طويلا ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها.
ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها.
ومن عجيب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهة للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو.
ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا.
وذكر ابن المنير في (الانتصاف) أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {وأبكارا} هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية.
وكان الفاضلُ يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوما بحضيرة أبي الجود النحوي المقري، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإِتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد.
فأنصفه الفاضل وقال: أرشدتنا يا أبا الجود.
قلت: وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجُود إذ كان له أن يقول: إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلا أو قسيما لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية.
ونقل الطيبي والقزويني في (حاشيتي الكشاف) أنه روى عن صاحب (الكشاف) أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} [الكهف: 22]، وقوله: {وفتحت أبوابها} [الزمر: 73] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك، وليس بشيء.
قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا (أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية) أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به. اهـ.
قلت: وهذا يخالف صريح كلامه في (الكشاف) فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب (الكشاف)، أو لعل صاحب (الكشاف) لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق.
وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى: {التائبون العابدون} الآية في سورة [براءة: 112].
وعند قوله: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} في سورة [الكهف: 22]، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة. اهـ.